استقر في حي شعبي ، ضاقت حواريه بساكنته حتى لفظ بعضا منها إلى مقربة من مجرى الوادي المحادي له ، في غير انتبا ه إلى المخاطر المحدقة. كهل امتد الشيب إلى رأسه مدا حتى كاد يستولي على آخر شعرة تغطي فروة رأسه الضخم ، و جحظت عيناه من وضوح امتلائه حتى غابت بين ثنايا تجاعيد جفونه ، فقد رباعيته اليمنى فعاض عنها بواحدة من صنع ماهر لا تكاد تنكشف للعامة ، يبتسم في غير انقطاع للناس ، كأنه يتودد إليهم لاستقباله بين جناحاتهم بعدما فقد الحبيب و الصديق في خضم أنانيته و استعلائه.
اكترى بيتا ضمن مكترين آخرين قذفت بهم الحياة إلى الحي نفسه مدفوعين إليه لقيمة الكراء التي تناسب مستوى دخلهم مستأنسين بأمثالهم ممن دفعت بهم الحاجة أمثالهم .
يضم السكن الجديد عددا من البيوت و بيت نظافة تهاوى تبليطه منذ زمن و لم يشتم رائحة الدهان منذ سنوات . فهو لا يستعمل إلا صباحا عند غدو المكترين إلى أشغالهم و ليلا حين رواحهم لذلك بات على تلك الحال دون اهتمام من أحد من رواده الذين يتغيرون بتغير مواسم توفر أيام العمل و غيابها .
لا يحوي بيت صاحبنا إلا فراشا من اسفنج تراخى و تهدلت حاشيته حتى بدا جزء منها ، و لحاف من الصوف قديم الطراز ، و وسادة غمدت بثوب مزكش بخطوط و رموز عدة . بجانبه يستقر مذياع صغير يشتغل بالبطارية يؤنس وحدة الساكن ليلا حين ينزوي إلى ذلك الركن من البيت . في احدى جنبات البيت ترى عبوة غاز صغيرة الحجم و وضعت على جنباتها بعض الحاجيات و الأواني التي تفي بغرض صنع وجبة خفيفة أو إبريق شاي .
جلس يحدث نفسه عن سالف حياته في أسف و حسرة ، حدث نفسه عن ماله و جاهه ، عن حبه و عطاءه ، عن صداقاته و هواياته ، فتوقف فجأة و اغرورقت عيناه حين تذكر كيف هجرته بعدما تغير حالها و استقرت أحوالها و أنجبا معا من لآلئ الحياة لؤلؤتان إحداهما سهى و الأخرى عدنان . كيف تخلت عنه عندما لم يعد يملك من العز ما امتلك يوما . مر على رؤيتهما ردح من الزمن ، هام خلالها على وجهه بين ثنايا الوطن على وقع صدمة لم تكن يوما في حسبانه . كفكف دموعه في أسى و عاب على نفسه الإستعلاء الذي كان يعامل به عماله و معاونيه . اليوم يلمس كيف كان يقسو على أناس قست عليهم الحياة و كيف كان يزيدهم ألما على آلامهم التي كانوا يتجرعونها منذ الغدو و حتى الآصال و منذ الغسق حتى ينبلج الفجر ، ألم على ألم، هو اليوم يتجرعه في بيئته الجديدة . و يتعلم من جديد .....
دأب على تلك الحال حتى نفذت ذخيرته و نحلت بنيته و غارت عيناه و برزت عظام وجنتيه ، و فقد الكثير من شعر رأسه . ربط خلال مكوثه بذلك البيت علاقات و قطع أخرى و حضر أناس و غاب آخرون . و في إحدى الأيام ساءت حالته الصحية و تراخت أطرافه ن فاضطر مساكنوه في الدار إلى نقله إلى المستشفى ، هناك سيلقى اهتماما رد عليه نفَسَه ، و أعاد إليه قطعة من صحته التي هلكت من الرطوبة الشديدة التي انتشرت في البيت الذي يكتريه في الحي الشعبي المحادي للوادي الذي يرمي طيلة الفصل الجاف بأنواع الحشرات التي تلذ العيش بين جنبات ساكني الحي.
استرجع صاحبنا عافيته ، و اكتسب عطف إحدى الممرضات اللواتي تكفلن بمتطلباته العلاجية طيلة مكوثه بالمستشفى . لم تكن تلك الفتاة العطوف إلا كريمته و قرة عينه سهى التي طالما حملها بين ذراعيه الحانيتين ، و لاعبها طيلة عشرة أعوام من عمر طفولتها إلى أن غيبتها عنه زوجته التي رحلت بهما بعيدا بعد اشباع نهمها من المال ، و بعد ان انفض عنه الحبيب و القريب نتيجة النكسة المالية التي ألمت به وقتذاك .
عرفت حبيبها و أباها من بطاقة هويته التي لم يغيرها حتى بعد نفاذ صلاحيتها ، منذ دخوله المستشفى ، و هي التي لازالت تحتفظ بنظرته الغالية رغم غياب نضارته الماضية ، عرفته فحنت عليه و أغدقت عليه من الحب مايغطي سنين البعاد القاسية الظالمة ، تذكرت أمها و أقوالها عنه حين السؤال ، فجاءها الجواب على لسان الجيران الذين أكدوا لها جمعا أن أباها كان وحيد ا ، منفيا ، حزينا من غير خليل فكيف تكون له خليلة ، من غيرمنصب فكيف يكون وجيها ، من غير مال فكيف يكون نظيفا أنيقا . عاش بين ظهرانيهم غريبا ألقت به إليهم الحياة ، كان كتوما لم يسئ إلى أحد ، فاحترمه الجميع و كان كريما فامتلك الجميع .
يا إلهي ، تلألأت عيناه الغائرتان من فرط الفرح و لف ابنته الغالية بذراعيه الواهنتين و بكى..................
لأول مرة يبكي ، لكنه يبكي و يجد من يكفكف دموعه ، لكنه يرفض أن يكفكفها ، يريدها أن تسيل و تسيل و تزيل الأحقاد و تغسل الفؤاد ليصبح نظيفا ليستقبل لؤلؤتين الغاليتين بقلب صاف رقراق ......